{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا } {الإسراء/23-25}
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . }
تؤكد هاتين الآيتين على أمرين عظيمين :الأول, التأكيد على أصل توحيد الله, والثاني الإحسان إلى الوالدين.
وجاء الخطاب الإلهي في هذه الآيات الشريفة في أوج القوة, فالألفاظ التي اختيرت لأداء هذا البلاغ توحي بقوة البيان الإلهي, حيث يوجد تلاؤم قوي بينها وبين مع المعنى المراد.
سأشير إلى بعض الجوانب البلاغية المرتبطة بهاتين الآيتين الشريفتين من ناحية انتقاء الألفاظ ومن ناحية ترتيب الجمل.
الجانب البلاغي الأول :
لماذا لم يقل الله سبحانه وتعالى : {وَأمر رَبُّكَ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... الآية }
هل يوجد فرق بين الكلمتين ( أمر ) و ( قضى ) في الدلالة اللغوية ؟
نعم, يوجد فرق بينهما, فمفهوم كلمة ( قضاء ) يختلف عن مفهوم كلمة ( أمر ), فالقضاء يعني القرار و الأمر المحكم الذي لا نقاش فيه.
في اللسان : قضى الأمر عليهِ حتمهُ وأوجبهُ وألزمهُ بهِ. (1)
قال الراغب في المفردات :
قضى
- القضاء: فصل الأمر قولا كان ذلك أو فعلا، وكل واحد منهما على وجهين: إلهي، وبشري. فمن القول الإلهي قوله تعالى: { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } [الإسراء/23] أي: أمر بذلك، وقال: { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} [الإسراء/4] فهذا قضاء بالإعلام والفصل في الحكم، أي: أعلمناهم وأوحينا إليهم وحيا جزما، وعلى هذا: وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع [الحجر/66]، ومن الفعل الإلهي قوله: { والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء} [غافر/20]، وقوله: { فقضاهن سبع سموات في يومين} [فصلت/12] إشارة إلى إيجاده الإبداعي والفراغ منه نحو: { بديع السموات والأرض} [البقرة/117]، وقوله: { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم} [الشورى/14] أي: لفصل. ... (2)
لذلك فإن مجيء كلمة " قضى " جاءت تأكيدا لبيان أهمية الإحسان إلى الوالدين.
الجانب البلاغي الثاني :
إن ترتيب الكلام – من ناحية بلاغية - تابع لأهميته المعنوية, فجاء البيان أولا بعبادة الله وحده لا شريك له, ثم أعقب ذلك مباشرة بيان أهمية الإحسان إلى الوالدين.
وندرك أهمية هذا الربط في شواهد قرآنية أخرى :
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } الأنعام/151
{ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا. } النساء/36
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ }البقرة/83
__________________
اللّهُمَّ اجْعَلْني مَعَ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ في كُلِّ عافيةٍ وَبَلاء، وَاجْعَلْني مَعَ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ في كُلِّ مَثْوىً وَمُنْقَلَبٍ. اللّهُمَّ اجْعَلْ مَحْياي مَحْياُهْم وَمَماتي مَماتَهُمْ، وَاجعَلْني مَعَهُمْ في المَواطِنِ كُلِّها وَلا تُفَرِّقْ بَيْني وَبَيْنَهُمْ إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيٍ قَديرٌ.